بسم الله الرحمن الرحيم
الكتابة عن الأشخاص الأعزاء الراحلين عن
الدنيا إلى الدار الآخرة، الذين نحبهم، وتربطنا بهم العلاقات والذكريات والمواقف
والأحداث، والتعبير الصادق عن محبتنا لهم، وكتابة سيرتهم العطرة، أو كتابة القصائد
والأشعار والخواطر في رثائهم وذكر صفاتهم؛ أو إحياء مناسبة تأبين لهم، كل ذلك
يعبّر عن جانب من الولاء والعِرفان والوفاء لهذه الشخصيات الطيبة، ويعبر عن
المواساة لعائلة هذا الشخص العزيز ولجميع محبيه ومجتمعه الكريم.
ومن النعم الإلهية الكبيرة على مجتمعنا، هي
نعمة التفاعل الاجتماعي، والترابط الاجتماعي القوي بين أفراد المجتمع، ومشاركة
الناس لبعضهم البعض في الأفراح والأحزان، وهذه من المظاهر العظيمة التي يجب أن
تستمر وأن تبقى خالدة، ويُنظر إليها على أنها نعمة إلهية كبيرة يجب شكر المنعم
عليها.
والكثير ممن تربطنا بهم علاقات، حينما
يرحلون عنا، نشعر أن بداخل وجداننا عواطف ومشاعر وكلام كثير عن هذه العلاقة، لكن
ليس بمقدورنا دائما أن نعبر عن هذه المشاعر، حتى وإن حاولنا إظهار كل تلك المشاعر
في تصرفاتنا ومواقفنا ووجوهنا وعيوننا وألسنتنا وكتاباتنا؛ لكن يبقى ما في داخلنا
أكبر بكثير مما نظهره، ولهذا فبالرغم من أن كل ذلك يعبر عن المحبة، لكنه لا يستطيع
أن يعبر عن الحجم الحقيقي للمحبة.
من هنا فإني أقدّر وأحترم وأُكبر لوم أو
عتاب الأصدقاء الأعزاء على عدم تقديم أي شيء وبأي وسيلة، وذلك لوجود نعمة الترابط
الاجتماعي بين المؤمنين، ولاشتراك المؤمنين وتوحدهم في المشاعر نحو شخص ما. ولكن
الأمر قد يكون فوق طاقة الفرد، إما لعدم تمرسه في الكتابة، أو لعدم القدرة على
التعبير ولو مؤقتا، حتى وإن طال هذا الوقت! ولهذا قد يأتي يوم من الأيام تجد هذا
السكوت قد تحول إلى بحر غزير من المشاعر.
بالنسبة إلى المرحوم العزيز الشاب خليل
دعبل رحمه الله، فإن علاقتي به وبأسرته المحترمة والكريمة، هي علاقة قديمة في
الواقع، ولعل ارتباطي القديم بالمؤمن محمد دعبل الذي له مكانة في قلبي لا يأخذها
أحد غيره، هي البوابة التي عرّفتني ببقية أفراد هذه الأسرة الطيبة، وبالرغم من
تقصيري الكبير واقعا في حقهم والتواصل معهم، لكني كنت ألقى شديد الاحترام منهم
سواء من خلال زياراتي المعدودة والمحدودة، أو من خلال التقائي بهم بما شاء وقدّر
الله تعالى. وخليل رحمه الله هو أحدهم بالطبع، واللقاء به رحمه الله يضعك في جو
إيماني جميل.
المؤسف في حياتنا، أن الظروف قد تكون حاجزا
عن تحقيق بعض آمالنا وأحلامنا، لهذا فإن ابتعادي الطويل عن البلد، حرمني واقعا من
التواصل مع مثل هذا العزيز الراحل وإخوته الكرام، والذي لم تستطع وسائل التواصل
بأنواعها أن تحل مكان هذا التواصل الحقيقي، لهذا فإن هذا الابتعاد ربما يمنعني من
الكتابة قليلا ولو في بعض الجوانب، ولذا أهيب بالمؤمنين ممن عاشروا هذا الشاب
العزيز أن لا يبخلوا بتقديم صورته الناصعة للمجتمع، كما لم يبخل عليهم وعلى
المجتمع بما وهبه الله تعالى.
من هنا فالحديث عن شخصية الراحل العزيز وما
تميز به بالنسبة لي، وللأسباب التي ذكرت، قد تكون كتابة قاصرة، ولكني أصررت على
قلمي أن يكتب في حق هذا المؤمن، لعل ذلك يكون بلسما مخففا لجرح الفقد الأليم في
قلبي وقلوب محبيه وقلوب أفراد عائلته خصوصا حيث سيكون ألم الفراق عليهم قاسيا
بطبيعة الحال.
نعم كنت في الواقع قد كتبت بعض الأبيات
الشعرية في يوم وفاته رحمه الله تعالى، ولكني عجزت عن إكمالها بسبب أن وقع الحدث
المفاجئ على قلبي قد أخذ مني هذه الطاقة! ولانشغالات أخرى قد زاحمتني ومنعتني عن
إكمالها. ومع ذلك فقد نويت أن أقرأها على قبره المنور يوم وفاته، أو في أيام
(الفاتحة). ولكن مع المحاولة لم تكن الظروف مناسبة لي أبدا.
وبالمناسبة فأنا لا أدري ما هي الظروف التي
منعت من أن يكون لخليل رحمه الله تشييعا أكثر هيبة من هذا التشييع الذي رأيناه!
فبالرغم من الحزن المخيم وقتئذ، لكن كنت أطمح أن تكون هناك أجواء خاصة تعبر بشكل
أكبر عن حجم هذا الفقد المؤلم.
إن لخليل مكانة في نفوس أفراد المجتمع من
جميع فئاته، فهذا الأمر كان مفاجئا لي، ولعل هناك ظروفا منعت من ذلك.
رحمه الله تعالى، لا شك عندي بأن أمثال هذا
الشاب الطاهر حفّته ألطاف الملائكة قبل أن تشيعه أطراف أيدي المؤمنين.
نعم كان رحمه الله محبا للخير وفعل الخير،
ومحبا لمساعدة الآخرين بأي شيء يستطيع فعله، ودون أن يطلب منه أحد، فلقد كان
مبادرا لفعل الخير.
كان مؤمنا بالله عز وجل، يلهج لسانه بذكر
الله، ورسائله الكتابية كذلك كانت تحمل هذا النَّفَس العطِر من الذكر، وكان كلامه
وكتاباته لا تخلو من الدعاء.
ولم يكن ينسى المؤمنين في دعائهم، خصوصا
الأسرى والمرضى، ونسأل الله تعالى أن يقدّرنا على أداء الواجب والدعاء له بالرحمة
والمغفرة والرضوان.
ومن كان كذلك فبالطبع سوف يكون تعلقه كبيرا
بالمآتم ومواكب العزاء، وهذا ما عرفناه عن شخصيته رحمه الله تعالى.
كان محبا للعلماء، خصوصا العلماء الواعين
والرساليين. وكان محبا للشهداء رحمهم الله.
في جانب آخر، نجده رحمه الله مهتما ومتابعا
ومتفاعلا مع قضايا المجتمع وقضايا الأمة.
أيضا تميز خليل رحمه الله بابتسامته
الدائمة، فعندما تقابله فلن تقابله إلا مبتسما ابتسامة مشرقة تخلق في النفس
الطمأنينة والسكينة، سبحان الوهاب.
أبو الخل، هو الاسم الذي كان يناديه به بعض
أصدقائه المقربين، وهذا الاسم يدل على العلاقة الوثيقة بينه وبين أصدقائه، الذين
كان يمزح معهم ويمزحون معه، بالنسبة لي شخصيا في الواقع لم تكن بيني وبينه مواقف
كثيرة تسمح بالمزاح، فأنا لا أذكر خليلا إلا وأذكر احترامه وأخلاقه وتواضعه وأدبه،
لكني من خلال متابعتي له فإنه بروحه الطاهرة، وبأخلاقه وتواضعه الجميل، كان يمزح
مع أصدقائه ويمزحون معه، ولم يكن هذا المزاح ليخرجه عن صورته البهية، صورة خليل،
الإنسان الطيب الهادئ الملتزم الخلوق.
وقد كان صبّ الله على قبره شآبيب رحمته متحدثا
لبقا، وحديثه حديث موزون.
خليل وما أدراك ما خليل، حينما أعجز عن
التحدث عنه فإني أكرر القول بأنه صاحب القلب النقي.
وقد كتبت فيه وفي بعض من رحلوا من أمثاله
من المؤمنين بعض الأبيات المتواضعة التي تشير إلى صفائهم ونقائهم، وألقيتها في
ليلة شهادة أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
ومن اللطيف أن ترى وتعرف أن شخصيته كانت
حاضرة في جوانب مختلفة، فكان رحمه الله تعالى محبا للشعر، وخصوصا الشعر الولائي،
وشعر الحكمة، وخاصة شعر الحكمة المنسوب لأمير المؤمنين عليه السلام.
أما عن الجانب الرياضي، فالكلام فيه يطول،
ويكفي على ذلك شاهدا البطولات التي حققها، والكلمات التي قيلت في شأنه وحقه في هذا
الجانب، وهي كثيرة.
كانت الرياضة تحتل مكانا كبيرا في حياة
الراحل المؤمن العزيز خليل دعبل رحمه الله تعالى، ولعل ذلك والله أعلم من الأمور
التي كانت تخفف من الألم المعنوي للإعاقة التي حاولت أن تعيقه، لكنه قد خلق بذلك
التحدي الكبير والمشهود له على مستوى المنطقة؛ خلق أنموذجا راقيا ساميا يضرب به
المثل، وهذا ما جعله في هذا الجانب مميزا بشكل كبير، لكني أرى أنه من غير الإنصاف
أن يكون خليل هو هذا البطل الرياضي المعروف فحسب، فإن شخصيته تميزت بميزات أخرى
رائعة جدا مهمة.
من هنا فإني أكرر طلبي من معارفه، بأن
يتناولوا أبعاد شخصيته، وفاء له، ولتعريف المجتمع بأنه يوجد عندنا أشخاص مميزين،
يمكن أن يكونوا قدوة ويضرب بهم المثل.
خليل رحل إلى الله و (إنا لله وإنا إليه
راجعون)، وقبل أن يرحل ترك بشخصيته وأعماله بصمات جميلة، ستحفر في ذاكرة الخلود،
وأقول إنه مع وجود تلك الإعاقة التي كانت مؤلمة لنا، لكنه رحمه الله كان منطلقا
ومحلّقا في سماء العطاء، متحديا لأي عائق جسدي أو معنوي، وباعتقادي أن من يمتلك
مثل هذه الروح المؤمنة والنقية والمفعمة بالنشاط والاجتهاد لو لم تكن الإعاقة في
طريقهم، ولو كانت الساحات مهيئة لهم، فسنجد المزيد من الأعمال الرائعة والبديعة
التي تخدم المجتمع وتساهم في بنائه وتقدمه وتطوره.
خليل بحجم الأمل.
قلب خليل رحمه الله حجمه ومساحته وجميع
قياساته، هو الأمل.
نعم لقد أصبح خليل فينا صورة حية مجسدة
للأمل، فكل من كان يرى أن الإعاقة لها علاقة باليأس، أو أنها باعثة على اليأس، أو
أنها تعكس صورة اليأس دلاليا في مخزون الوعي واللاوعي فينا، كان حين يرى خليلا
ينسى شيئا اسمه اليأس، ويرى كتابا طاهرا اسمه الأمل.
والكثير ممن يعرف خليل وكان يتعاطف معه من
حيث إصابته بالإعاقة، وكانوا يحاولون التحدث معه أو الإشارة إليه بالرضا بقضاء
الله وقدره، كان هو يترجم لهم بثقته بنفسه وبإيمانه بالله تعالى ذلك الأمل الذي
أرادوا أن يعطوه إياه. نعم كما علمتُ أنه في هذا الشأن خصوصا في الجانب الرياضي،
ربما كان لبعض من كان يعرفهم دور في خلق الدافعية عنده بشكل أكبر، جزاهم الله كل
الخير.
قد يقول أو يشعر قائل إن بعض المميزات هي
مميزات موجودة في غيره رحمه الله، فنقول نعم هذا حق، ونحن لا نقول إنه تفرد بها،
لكنها بمجموعها في شخصه تمثل قيمة للإنسان، وترسم صورته، فإن قيمة الإنسان ما
يتقنه في حياته من قول وعمل، ومن الجميل أن نرى نماذج مثل خليل في مجتمعنا تحمل
مثل هذه الصفات الكريمة.
مع ابتعادي عن البلد لفترة طويلة، وحتى مع
وجودي في البلد، كانت من أسعد اللحظات عندي تلك اللحظات التي كنت أشاهد فيها بعض
مشاركات الإخوة والأحبة ومنهم مشاركات خليل دعبل رحمه الله عبر الفيسبوك.
ولا أدري في الحقيقة إن كان ما يكتبه خليل
دعبل هو منقول او هو من تأليفه، لكنه على كل حال كان يمثل ما يختلج في صدره ويعبر
به عن براءته وثقافته وتفكيره والاجواء التي يعيشها، وكان ما يكتبه ولو نقلا مليئ
بالدعوة إلى الرضا بالقدر والصبر والأدب مع الله تعالى والتمسك بأهل البيت صلوات الله
عليهم وإن كان ليس من كتابته فهو انتقاء رائع كالتقاط اللآلي يدل على وعي إيماني
وإيمان خالص وقلب نقي مرتبط بالله تعالى.
كتبت له رحمه الله تعالى ذات يوم تعقيبا
على كلام ذكره عن الصداقة:
أحسنتم عزيزي خليل، وأحب أن أذكر لك ربطا
لطيفا إن سمحت لي، وهو قول الأمير صلوات الله عليه " أحبب حبيبك هونا ما فعسى
أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض عدوك هونا ما فعسى أن يكون صديقك يوما ما ".
فبرغم تنقيبنا وسعينا للاختيار الأفضل
والأمثل للتقرب من الأصدقاء إلا أن حالة الانقلاب واردة لأسباب كثيرة نفسية
ومزاجية ومصلحية وغير ذلك، فكما نريد أن نطبق هذه القاعدة واستحضارها فلنعلم أن
الآخرين يستحضرونها كذلك، اللهم اجمعنا بخيار خلقك وجنبنا شرار خلقك إله الحق
آمين. وتحية عطرة لك وللأسرة الكريمة.
فكتب لي:
أحمد ربي حمداً كثيرا أن جعلك لي خير أخ
وصديق يا الغالي أبا ذر.
ورددت عليه:
لنا الشرف بصداقتكم، وبالرغم من كوني بعيدا
عنكم بالحضور إلا أنكم من دائمي الحضور في قلبي أيها العزيز.
كثيرا ما كنت أشعر بالتقصير في حق الإخوة
المؤمنين والتواصل معهم، ومنهم هذا المؤمن الراحل، وأخيه العزيز جدا أبو كميل،
ألهمه الله ومحبيه الصبر والسلوان، في فقد هذا الشاب العزيز.
لهذا فإن وفاة خليل رحمه الله هي حادثة
فاجأتني، وفجعتني كأخواتها من الحوادث، خصوصا أني لم أكن على علم بدخوله للمستشفى
قبل ذلك، مما يشعرني بالخجل والتقصير في حق مثل هذا المؤمن.
أسأل الله تعالى أن يعفو عن تقصيري في حق
من وجب حقه عليّ.
وفي ختام هذا الكلام عن هذا المؤمن العزيز،
أسأل الله تعالى له الرحمة الواسعة وأن يصب الله على قبره شآبيب رحمته ولطفه، وأن
يحشرنا الله وإياه مع محمد وآل محمد عليهم السلام، وأن يلهم الله تعالى أهله
ومحبيه الصبر والسلوان ويكتب لهم جزيل الأجر على صبرهم إنه سميع مجيب.
المقصر: أبو ذر آل قرين
السادس من شهر
شوال لعام ألف وأربعمائة وأربعة وأربعين من الهجرة.